الخلق الحسن
عاقبة الظلم
اعلم أنَّ اللهَ تباركَ وتعالى هو القاهرُ فوقَ عبادهِ وللضعيفِ معينٌ، وللمظلومِ ناصرٌ.
ذكرَ الهيتميُّ في كتابِ" الزواجرِ عن اقترافِ الكبائرِ" أنَّهُ كانَ رجلٌ من بني إسرائيلَ على ساحلِ البحرِ فرأى رجلًا مقطوعَ اليدِ من الكتفِ وهو يُنادي بأعلى صوتِهِ "ألا من رءاني فلا يَظلِمَنَّ أحدًا" قالَ: فدنا منهُ وقالَ: يا عبدَ اللهِ ما خبرُك؟ فقالَ لهُ: اعلمْ، أني كنتُ رجلًا شرطيًا فجئتُ يومًا إلى هذا الساحلِ فرأيتُ صيادًا مسكينًا قد اصطادَ سمكةً كبيرةً فأعجبتني فسألتُهُ أن يُعطيَني إياَّها فأبى فقالَ: لا أُعطِيكَها، أنا آخذُ بثمنِها قوتًا لعيالي. فسألتُه أن يبيعَها لي فأبى، فضربتُ رأسَهُ بسَوطِي وأخذتُها منه قهرًا ومَضَيتُ بها، قالَ: فبينَما أنا ماشٍ بها حاملُها، وكانت ما تزالُ فيها حياةٌ، إذ عضَّتْ عليَّ إبهامي عضةً قويةً، حاولتُ أن أُخلِّصَ إبهامي منها فلم أقدِرْ، وآلمتني ألـَمًا شديدًا، حتى لم أَنَم من شدةِ الوجعِ، وورمَتْ يدي فجئتُ إلى عيالي فعالجوا أن يُخلِّصُوا إبهامي منها فلم يَقْدِرُوا إلا بعدَ تعبٍ شديدٍ، فأصابَ إبهامي ورمٌ وانتفاخٌ، ثم انتفختْ فيه عيونٌ من ءاثارِ أنيابِ هذه السمكةِ.
فلما أصبحتُ أتيتُ الطبيبَ وشكوتُ إليهِ الألمَ، فلما نظرَ إلى إبهامي قالَ: "هذه الآكلةُ" - أي ما يُسمى الغَرغرينا - بلا شكٍّ اقطَعْها وإلا تلِفَتْ يدُك أي إن لم تُقطَعْ إبهامُك هَلَكَتَ، فقُطِعَتْ إبهامِي.
ثم اشتدَ الألمُ على باقي يدي، فلم أُطِقِ الراحةَ ولا النومَ من شدةِ الألمِ والوجعِ، فذهبتُ إلى الطبيبِ، فقالَ لي اقطَعْ كفَّكَ فقطعتُها.
وانتشرَ الألمُ إلى الساعدِ وءالمني شديدًا وجعلتُ أستغيثُ من شدةِ الألمِ، فقيلَ لي اقطَعْها من المرفقِ، فقطعتُها فانتشرَ الألمُ إلى العَضُدِ. فقيلَ لي: لا بدَّ أن يُقطَعَ الكتفُ، اقطَعْ يدَكَ من كتفِكَ وإلا سرى الألمُ إلى جسدِك كلِّهِ، فقطعتُها. وما زالَ الألمُ يترددُ عليَّ، فقالَ لي بعضُ الناسِ: ما سببُ ألَمِكَ؟ فذكرتُ له قصةَ السمكةِ، فقالَ لي: لو كنتَ رجعتَ من أولِ ما أصابَك الألمُ إلى صاحبِ السمكةِ فاستحللْتَ منهُ واسترضيَتَهُ، ما قطعتَ يدكَ ولا عضوًا من أعضائِك، فاذهبْ إليهِ الآنَ واطلبْ رضاهُ قبلَ أن يصِلَ الألمُ إلى بدنِكَ.
قالَ فلم أزَلْ في طلبِه في البلدِ حتى وجدتُهُ، فوقعتُ على قدميْهِ أقبلُها وأبكي فقلتُ: يا أخي سألتُكَ باللهِ إلا عفوتَ عني، فقالَ لي: ومن أنت؟ فقلتُ: أنا الذي أخذتُ منكَ السمكةَ غَصْبًا وذكرتُ لهُ ما جرى عليَّ، وأريتُه يدي كيفَ قُطِعَتْ فبكى حينَ رءاها ثم قالَ: يا أخي قد أحللتُكَ منها.
فقالَ الظالمُ: باللهِ يا أخي ، سألتُكِ باللهِ هل كنتَ دعوتَ عليَّ عندما أخذتهُا منك؟ قالَ: نعم، قلتُ "اللهم هذا تَقَوَّى عليَّ بقوتِهِ على ضعفِي وأخذَ مني ما رزقتني ظلمًا فأَرِني فيه قدرتَكَ".
روى البخاريُّ عن أبي هريرةَ رضيَ اللهُ عنهُ قالَ قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ كانت عندَهُ مَظْلَمَةٌ لأخيهِ مِنْ عرضِهِ أو مِن شىءٍ فليتحَلَّلْهُ منهُ اليومَ قبلَ أن لا يكونَ دينارٌ ولا درهمٌ " الحديثَ.
أكثِرْ منَ الطاعاتِ وعدمِ الركونِ إلى هذه الدنيا الفانيةِ، فالدنيا ساعةٌ فاجعَلْها طاعةً والنفسُ طمَّاعةٌ فعَلِّمْها القناعةَ.. ابنَ ءادمَ
يا مَنْ بدنياهُ اشتغَلْ *** وغرَّهُ طولُ الأملْ
الموتُ يأتي بغتةً *** والقبرُ صندوقُ العملْ
اللَّهمَّ اقسِم لنا من خشيتِكَ ما تحولُ بهِ بيننا وبين معاصِيك ومن طاعتِكَ ما تبلِّغُنا بِهِ جنّتك ومنَ اليقيِن ما تُهوِّنُ بهِ علينا مصائِبَ الدنيا