كيف أسلم؟
أبو ذر الغفاري
هو جندب بن جنادة الذي مدحه الرسول بالصدق ودعا له وقال فيه: "ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء أصدق لهجة من أبي ذر".
في وادي "ودان" الذي يصل مكة بخارجها كانت تنزل قبيلة "غفار". وكانت "غفار" تعيش من ذلك النزر اليسير الذي تبذله لها القوافل التي تسعى بتجارة قريش ذاهبة إلى بلاد الشام أو ءايبة منها، وربما عاشت من قطع الطريق على هذه القوافل إذا هي لم تطعها أو تعطها ما يرضيها. كان "جندب بن جنادة" المكنى بأبي ذر واحدًا من أبناء هذه القبيلة، وكان يمتاز بجرأة القلب، وبعد النظر، وكان يضيق أشد الضيق بهذه الأوثان التي يعبدها قومه من دون الله، ويستنكر ما وجد عليه العرب من فساد الدين، وتفاهة المعتقد، ويتطلع إلى ظهور نبي جديد يملأ على الناس عقولهم وأفئدتهم ويخرجهم من الظلمات إلى النور.
ثم تناهت إلى أبي ذر وهو في باديته أخبار النبي الجديد الذي ظهر في مكة، فقال لأخيه "أنيس": "انطلق إلى مكة، وقف على أخبار هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي، وأنه يأتيه وحي من السماء، واسمع شيئًا من قوله واحمله إلي". فذهب أنيس إلى مكة، والتقى بالرسول صلوات الله عليه وسلامه، وسمع منه، ثم عاد إلى البادية فتلقاه أبو ذر في لهفة، وسأله عن أخبار النبي الجديد في شغف فقال: لقد رأيت والله رجلاً يدعو إلى مكارم الأخلاق، ويقول كلامًا ما هو بالشعر. فقال له: وماذا يقول الناس فيه؟ فقال: يقولون: إنه ساحر، وكاهن، وشاعر. فقال أبو ذر: والله ما شفيت لي غليلاً، ولا قضيت لي حاجة، فهل أنت كاف عيالي حتى أنطلق فأنظر في أمره؟ قال: نعم، ولكن كن من أهل مكة على حذر.
تزود أبو ذر لنفسه، وحمل معه قربة ماء صغيرة، واتجه من غده إلى مكة يريد لقاء النبي والوقوف على خبره بنفسه، فلما بلغ مكة توجس خيفة من أهلها، فقد تناهت إليه أخبار قريش وتنكيلها بكل من تحدثه نفسه باتباع النبي محمد، لذا كره أن يسأل أحدًا عنه لأنه ما كان يدري أيكون هذا المسؤول من شيعته [أنصاره] أم من عدوه؟
ولما أقبل الليل اضطجع في المسجد، فمر به علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فعرف أنه غريب فقال: هلم بنا أيها الرجل، فمضى معه وبات ليلته عنده، وفي الصباح حمل قربته وزاده وعاد إلى المسجد دون أن يسأل أحد منهما الآخر عن شئ.
ثم قضى أبو ذر يومه الثاني دون أن يتعرف إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أمسى أخذ مضجعه من المسجد، فمر علي رضي الله عنه فقال له: أما ءان للرجل أن يعرف منزله؟! ثم اصطحبه معه فبات عنده ليلته الثانية، ولم يسأل أحد منهما الآخر عن شىء.
فلما كانت الليلة الثالثة قال سيدنا علي لصاحبه: ألا تحدثني عما أقدمك إلى مكة؟ فقال أبو ذر: لقد قصدت مكة من أماكن بعيدة أبتغي لقاء النبي الجديد وسماع شئ مما يقوله، فانفرجت أسارير سيدنا علي رضي الله عنه وقال: "والله إنه لرسول الله حقًا" وصار يصفه له بأكمل الأوصاف.
ثم قال له: "إذا أصبحنا فاتبعني حيثما سرت، فإن رأيت شيئًا أخافه عليك وقفت كأني أريق الماء، فإن مضيت فاتبعني حتى تدخل مدخلي". لم يقر لأبي ذر عين طوال ليلته شوقًا إلى رؤية النبي، ولهفة إلى استماع شئ مما يُوحى به إليه.
ويصل أبو ذر في صبيحة يوم ليجد الرسول صلى الله عليه وسلم جالسًا وحده فيسلم على الرسول الأكرم عليه الصلاة والسلام ثم يقول: "اقرأ عليّ". فقرأ الرسول الأعظم صلوات الله وسلامه عليه ما تيسر، وهنا يعلنها أبو ذر هاتفًا: "أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله"، وسأله الرسول صلوات الله وسلامه عليه: "ممن أنت" فأجابه أبو ذر: "من غفار". يقول أبو ذر وهو يروي القصة: "فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يرفع بصره ويصوبه تعجبًا لما كان من غفار لأنها كانت قبيلة لا يُدرك لها شأن في قطع الطريق وعمليات السطو، ثم قال: إن الله يهدي من يشاء. وبلغ خبر إسلامه كفار قريش فجاؤوا إليه وأمسكوا به وأوسعوه ضربًا وايذاءً وهو صابرٌ على الأذى محتسب الأجر من الله عز وجل، وما زالوا يضربونه حتى أغمي عليه.
وجاء العباس عم النبي يسعى وأنقذه من بين أنيابهم بحيلة فقال لهم: "يا معشر قريش أنتم تجار وطريقكم على غفار وهذا رجل من رجالها، إن يحرض قومه عليكم يقطعوا على قوافلكم الطريق" فعندها تركوه، وعاد سيدنا أبو ذر إلى عشيرته وقومه يدعوهم للإسلام فيسلمون واحدًا تلو واحد ولا يكتفي بقبيلة "غفار" بل ينتقل إلى غيرها من القبائل يدعو إلى الإسلام احتسابًا للأجر من الواحد الأحد.