ليعلم أن العلم بالله تعالى وصفاته أجلّ العلوم وأعلاها وأوجبها وأولاها، وهو أصل كل علم ومنشأ كل سعادة، ولهذا سمي علم الأصول؛ وقد خصَّ النبي صلى الله عليه وسلم نفسه بالترقي في هذا العلم فقال: "أنا أعلمكم بالله وأخشاكم له" رواه البخاري2، فكان هذا أهم العلوم تحصيلاً وأحقِّها تبجيلاً وتعظيمًا، قال تعالى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾ (19) [سورة محمد]، قدم الأمر بمعرفة التوحيد على الأمر بالاستغفار، والسبب فيه أن معرفة التوحيد إشارة إلى علم الأصول والاشتغال بالاستغفار إشارة إلى علم الفروع، لأنه ما لم يعلم وجود الصانع يمتنع الاشتغال بطاعته. وقد حثّ الله تعالى عباده في كثير من ءايات القرءان على النظر في ملكوته لمعرفة جبروته فقال: ﴿وَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ (185) [سورة الأعراف]، وقال تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ (53) [سورة فصلت].
فإن قيل: لم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم علَّم أحدًا من أصحابه هذا العلم، ولا عن أحد من أصحابه أنه تعلم أو علّم غيره، وإنما حدث هذا العلم بعد انقراضهم بزمان، فلو كان هذا العلم مهمًّا في الدين لكان أولى به الصحابة والتابعون.
قلنا: إن عني به أنهم لم يعلموا ذات الله وصفاته وتوحيده وتنـزيهه وحَقيّة رسوله وصحة معجزاته بدلالة العقل فأقروا بذلك تقليدًا، فهو بعيد من القول شنيع من الكلام، وقد ردّ الله عزّ وجلّ في كتابه على من قلّد ءاباءه في عبادة الأصنام بقوله: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ﴾ (23) [سورة الزخرف] أي على دين ﴿وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ﴾ (23) [سورة الزخرف]. وقد حاجّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم كثيرًا من المشركين واليهود والنصارى وذلك مما لا يخفى.
وإن أريد به أنهم لم يتلفظوا بهذه العبارات المصطلحة عند أهل هذه الصناعة نحو الجوهر والعرض والجائز والمحال والحدَث والقِدم، فهذا مُسلَّم، ولكنا نعارض بمثله في سائر العلوم، فإنه لم يُنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه التلفظ بالناسخ والمنسوخ، والمجمل والمتشابه وغيره كما هو مستعمل عند أهل التفسير، ولا بالقياس والاستحسان، والمعارضة والمناقضة والعلة وغيرها كما هو المستعمل عند الفقهاء، ولا بالجرح والتعديل، والآحاد والمشهور والمتواتر، والصحيح والغريب، وغير ذلك كما هو المستعمل عند أهل الحديث، فهل لقائل أن يقول يجب رفض هذه العلوم لهذه العلة.
فإن قيل: قال ابن عباس: "تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق" فإنه منهيّ عنه.
قلنا: إنه ورد النهي عن التفكر في الخالق مع الأمر بالتفكر في الخلق، فإنه يوجب النظر والتأمل في ملكوت السمَوات والأرض ليستدل بذلك على الصانع أنه لا يشبه شيئًا من خلقه، ومن لم يعرف الخالق من المخلوق كيف يعمل بهذا الأثر؟
وموضوع هذا العلم علم التوحيد النظر في الخلق لمعرفة الخالق، وقيل في تعريفه: إنه علم يتكلم فيه عن أسماء الله تعالى وصفاته وأفعاله وأحوال المخلوقين من الملائكة والأنبياء والأولياء والأئمة والمبدإ والمعاد، على قانون الإسلام لا على أصول الفلاسفة، فإنهم - أي الفلاسفة - تكلموا في حق الله وفي حق الملائكة وغير ذلك اعتمادًا على مجرد النظر والعقل فجعلوا العقل أصلًا للدين فلا يتقيدون بالتوفيق بين النظر العقلي وبين ما جاء عن الأنبياء.
أما علماء التوحيد فيتكلمون في ذلك من باب الاستشهاد بالعقل على صحة ما جاء عن الله وعلى صحة ما جاء عن رسول الله، فعندهم العقل شاهد للدين وليس أصلًا للدين" انتهى.
وقال الشيخ العلامة عبد الله الهرري ما نصه3: "قواعد نافعة
أحدها: ما ذكره الحافظ الفقيه البغدادي في كتابه الفقيه والمتفقّه ونصه: "والثانية: لا تثبت الصفة لله بقول صحابي أو تابعي إلا بما صح من الأحاديث النبوية المرفوعة المتفق على توثيق رواتها، فلا يحتج بالضعيف ولا بالمختلف في توثيق رواته حتى لو ورد إسنادٌ فيه مُختَلَف فيه وجاء حديث ءاخر يَعْضُدُه فلا يُحتَجُّ به".
الثانية: قال فيه أيضًا ما نصّه4: "وإذا روى الثقة المأمون خبرًا متّصل الإسناد رُدّ بأمور: أحدها: أن يخالف موجبات العقول فيعلم بطلانه لأن الشرع إنما يَرِدُ بمجوَّزات العقول وأمّا بخلاف العقول فلا، والثاني: أن يخالف نص الكتاب أو السنة المتواترة فيعلم أنه لا أصل له أو منسوخ، والثالث: أن يخالف الإجماع فيستدل على أنه منسوخ أو لا أصل له، لأنه لا يجوز أن يكون صحيحًا غير منسوخ وتجمع الأمة على خلافه" انتهى.
الثالثة: ذكر علماء الحديث أن الحديث إذا خالف صريح العقل أو النّص القرءاني أو الحديث المتواتر ولم يَقبل تأويلًا فهو باطلٌ، وذكره الفقهاء والأصوليون في كتب أصول الفقه كتاج الدين السبكي في "جمع الجوامع" وغيره.
قال أبو سليمان الخطابي: "لا تثبت لله صفة إلا بالكتاب أو خبر مقطوع له بصحته يستند إلى أصل في الكتاب أو في السنة المقطوع على صحتها، وما بخلاف ذلك فالواجب التوقف عن إطلاق ذلك ويتأول على ما يليق بمعاني الأصول المتفق عليها من أقوال أهل العلم من نفي التشبيه". قال: "وذِكر الأصابع لم يوجد في الكتاب ولا في السنة التي شرْطها في الثبوت ما وصفناه، فليس معنى اليد في الصفات معنى الجارحة حتى يتوهم بثبوتها ثبوت الأصابع بل هو توقيف شرعي أطلقنا الاسم فيه على ما جاء به الكتاب من غير تكييف ولا تشبيه" انتهى. انتهى كلام الهرري.
وقال أيضًا ما نصه5: "قاعدة مهمة:
إن الشرع إنما ثبت بالعقل، فلا يتصور وروده بما يكذب العقل فإنه شاهده، فلو أتى بذلك لبطل الشرع والعقل معًا، إذا تقرّر هذا فنقول: كل لفظ يرد من الشرع في الذات والأسماء والصفات بما يوهم خلاف العقل فلا يخلو إما أن يكون متواترًا أو ءاحادًا، فإن كان ءاحادًا وهو نص لا يحتمل التأويل قطعنا بتكذيب ناقله أو سهوه أو غلطه، وإن كان ظاهرًا فالظاهر منه غير مراد، وإن كان متواترًا فلا يتصور أن يكون نصًّا لا يحتمل التأويل، فلا بُدّ أن يكون ظاهرًا أو محتملاً، فحينئذ نقول الاحتمال الذي دلّ العقل على خلافه ليس بمراد منه، فإن بقي بعد إزالته احتمال واحد تعين أنه المراد بحكم الحال، وإن بقي احتمالان فصاعدًا فلا يخلو إما أن يدل قاطع على تعيين واحد منها أو لا، فإن دَلّ حمل عليه، وإن لم يدل قاطع على التعيين فهل يعين بالظنّ والاجتهاد؟ اختلف فيه، فمذهب السلف عدم التعيين خشية الإلحاد" انتهى.
وقال الشيخ الفقيه شيث بن إبراهيم المالكي (توفي سنة 598) ما نصه6: "أهل الحق جمعوا بين المعقول والمنقول أي بين العقل والشرع، واستعانوا في درك الحقائق بمجموعهما فسلكوا طريقًا بين طريقي الإفراط والتفريط، وسنضرب لك مثالا يقرب من أفهام القاصرين ذَكره العلماء كما أن الله تعالى يضرب الأمثال للناس لعلهم يتذكرون، فنقول لذوي العقول: مثال العقل العين الباصرة، ومثال الشرع الشمس المضيئة، فمن استعمل العقل دون الشرع كان بمنـزلة من خرج في الليل الأسود البهيم وفتح بصره يريد أن يدرك المرئيات ويفرق بين المبصَرات فيعرف الخيط الأبيض من الخيط الأسود، والأحمر
من الأخضر والأصفر، ويجتهد في تحديق البصر فلا يدرك ما أراد أبدًا مع عدم الشمس المنيرة وإن كان ذا بصر وبصيرة، ومثال من استعمل الشرع دون العقل، مثال من خرج نهارًا جهارًا وهو أعمى أو مغمض العينين، يريد أن يدرك الألوان ويفرق بين الأعراض، فلا يدرك الآخر شيئًا أبدًا، ومثال من استعمل العقل والشرع جميعًا مثال من خرج بالنهار وهو سالم البصر، مفتوح العينين والشمس ظاهرة مضيئة، فما أجدره وأحقه أن يدرك الألوان على حقائقها، ويفرق بين أسودها وأحمرها وأبيضها وأصفرها.
فنحن بحمد الله السالكون لهذه الطريق وهو الطريق المستقيم، وصراط الله المبين، ومن زل عنها وحاد وقع في طريق الشيطان المتشعّبة عن اليمين والشمال، قال تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ (153)﴾ [سورة الأنعام]" انتهى.
ومن هنا يعلم أن المشبهة المجسمة تائهون في المعتقد لأنهم خالفوا الشرع والعقل بقولهم إن الله جالس على العرش، وتارة يقولون إنه مستقر عليه، ومنهم من يقول إن الله ترك مكانًا يجلس فيه معه محمدًا يوم القيامة، وبقولهم إن الله متحيز في مكان فوق العرش بذاته، وبقولهم إن الله يتحرك كل ليلة بنـزوله من العرش إلى السماء الدنيا، حتى إن بعض هؤلاء قال: إن الله يضع رجله في جهنم لكنها لا تحترق والعياذ بالله تعالى، وغيرِ ذلك من أقوالهم التي تدل على التشبيه والتجسيم لقياسهم الخالق على المخلوق، واتباعهم الوهم.
فنحمد الله تعالى الذي جعلنا على منهج أهل السنة والجماعة الذين تكلموا في أمور التوحيد من باب الاستشهاد بالعقل على صحة ما جاء عن الله، وعلى صحة ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
---------------------