نذكر في هذا الفصل بعض من قال من أهل العلم إن السماء هي قِبْلة للدعاء وليست مكانًا ومسكنًا لله تعالى:
1 - قال إمام أهل السنة أبو منصور الماتريدي (333هجري) ما نصه1: "وأما رفع الأيدي إلى السماء فعلى العبادة، ولله أن يَتعبَّد عبادَه بما شاء، ويوجههم إلى حيث شاء، وإن ظَنَّ من يظن أن رفع الأبصار إلى السماء لأن الله من ذلك الوجه إنما هو كظن من يزعم أنه إلى جهة أسفل الأرض بما يضع عليها وجهه متوجهًا في الصلاة ونحوها، وكظن من يزعم أنه في شرق الأرض وغربها بما يتوجه إلى ذلك في الصلاة، أو نحو مكة لخروجه إلى الحج" انتهى ثم ذكر تنـزيه الله عن الجهة.
2 - وقال الحافظ اللغوي الفقيه السيد محمد مرتضى الزبيدي ما نصه2: "فإن قيل: إذا كان الحقُّ سبحانه ليس في جهةٍ، فما معنى رفع الأيدي بالدعاء نحو السماء؟.
فالجواب: من وجهين ذكرهما الطُّرْطُوشي3:
أحدهما: أنه محلُّ التعبُّد، كاستقبالِ الكعبةِ في الصلاة، وإلصاق الجبهةِ بالأرضِ في السجود، مع تنـزُّهه سبحانه عن محلِّ البيت ومحلِّ السجود، فكأنَّ السماءَ قبلةُ الدعاء.
وثانيهما: أنها لما كانَتْ مهبِط الرزقِ والوحيِ وموضعَ الرحمةِ والبركةِ، على معنى أن المطرَ يَنـزِلُ منها إلى الأرضِ فيخرج نباتًا، وهي مَسكنُ الملإ الأعلى، فإذا قَضَى اللهُ أمرًا ألقاه إليهم، فيُلقونه إلى أهلِ الأرض، وكذلك الأعمال تُرفَع، وفيها غيرُ واحد من الأنبياء، وفيها الجنةُ – وهي فوق السماء السابعة - التي هي غايةُ الأماني، فلما كانت مَعْدِنًا لهذه الأمور العِظام ومَعرِفةَ القضاءِ والقَدَر، تَصرَّفَت الهِممُ إليها، وتوفَّرَت الدواعي عليها" انتهى.
3 - وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني الشافعي الأشعري (852هجري) ما نصه4: "السماء قِبْلة الدعاء كما أن الكعبة قِبْلة الصلاة" انتهى.
4 - وقال الشيخ مُلاّ علي القاري الحنفي (1014هجري) في كتابه "شرح الفقه الأكبر" ما نصه5: "السماء قِبْلة الدعاء بمعنى أنها محل نزول الرحمة التي هي سبب أنواع النعمة، وهو مُوجِب دفع أصناف النقمة... وذكر الشيخ أبو معين النسفي إمام هذا الفن في "التمهيد" له من أن المحقّقين قرّروا أن رفع الأيدي إلى السماء في حال الدعاء تعبّد محض" انتهى.
5 - وقال العلّامة البَياضي الحنفي (1098هجري) في كتابه "إشارات المرام" ما نصه6: "رفع الأيدي عند الدعاء إلى جهة السماء ليس لكونه تعالى فوق السمَوات العُلى بل لكونها قِبلة الدعاء، إذ منها يتوقع الخيرات ويستنـزل البركات لقوله تعالى: ﴿وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22)﴾ [سورة الذاريات] مع الإشارة إلى اتصافه تعالى بنعوت الجلال وصفات الكبرياء، وكونه تعالى فوق عباده بالقهر والاستيلاء" انتهى.
6 - وقال الحافظ الفقيه اللُّغوي السيد محمد مرتضى الزَّبِيدي الحنفي (1205هجري) ما نصه7: "وإنما اختُصَّت السماء برفع الأيدي إليها عند الدعاء لأنها جُعِلَت قِبْلة الأدعية كما أن الكعبة جُعِلَت قِبْلة للمصلي يستقبلها في الصلاة، ولا يقال إن الله تعالى في جهة الكعبة" انتهى.
7 - وقال أيضًا8: "فأما رفع الأيدي عند السؤال والدعاء إلى جهة السماء فهو لأنها قِبلة الدعاء كما أن البيت قِبلة الصلاة يُسْتقبَل بالصدر والوجه، والمعبودُ بالصلاة والمقصودُ بالدعاء - وهو الله تعالى – منـزه عن الحلول بالبيت والسماء؛ وقد أشار النسفي أيضًا فقال: ورفع الأيدي والوجوه عند الدعاء تعبُّد محض كالتوجّه إلى الكعبة في الصلاة، فالسماء قِبْلة الدعاء كالبيت قِبْلة الصلاة" انتهى.
8 - قال العلامة المحدث الشيخ عبد الله الهرري المعروف بالحبشي في كتابه "إظهار العقيدة السُنيَّة" ما نصه9: "ورفعُ الأيدي والوجوه إلى السماء عند الدعاء تعبُّدٌ مَحْضٌ كالتوجّه إلى الكعبة في الصلاة، فالسماء قِبْلة الدعاء كالبيت الذي هو قِبْلة الصلاة" انتهى.
وهذا يدل على موافقة الشيخ عبد الله الهرري لأهل السنة فيما يقوله من تقرير عقيدة أهل الحق، فلا يخرج عما أجمع عليه المجتهدون في الأصول والفروع، بخلاف أدعياء العلم الذين لا يتورعون عن الإفتاء بغير علم كالمجسمة الذين يضلِّلون المسلمين المتوسلين بالأنبياء والصالحين؛ ولهم غير ذلك من شواذات انحرفوا بها عن منهج الصحابة ومن جاء بعدهم من أهل السنة إلى يومنا هذا.
هذا ما كان من بيان تنـزيه الله عن المكان والجهة مدعَّمًا بالأدلة من الكتاب والسنة وإجماع الأمة ونقول مشاهير العلماء من المذاهب الأربعة وغيرها، ونسأل الله الكريم أن ينفع به إنه على كل شىء قدير، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى ءاله الأطهار وصحابته الأخيار.
---------------------